سورة الحشر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} حكايةٌ لِمَا جَرَى بينَ الكفرةِ والمنافقينَ من الأقوالِ الكاذبةِ والأحوالِ الفاسدةِ، وتعجيبٌ منها بعد حكايةِ محاسنِ أحوالِ المؤمنينَ وأقوالِهِم على اختلافِ طبقاتِهِمْ. والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلِّ أحدٍ ممن له حظٌ من الخطابِ. وقولِهِ تعالى: {يَقُولُونَ} إلخ استئنافٌ لبيانِ المتعجَّبِ منهُ. وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرارِ قولِهِم أو لاستحضارِ صورتِهِ. واللامُ في قولِهِ تعالى: {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} للتبليغِ. والمرادُ بأخوَّتِهِم إما توافُقُهُم في الكفرِ أو صداقَتُهُم وموالاتُهُمْ. واللامُ في قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي من ديارِكُم قَسْراً واللام موطئةٌ للقسمِ. وقولُهُ تعالى: {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} جوابُ القسمِ، أيْ والله لئِنْ أُخْرجتُم لنخرجنَّ معكم البتةَ ونذهبنَّ في صُحْبَتكم أينما ذهبتُم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} أيْ في شأنِكُمْ {أَحَدًا} يمنعنا منَ الخروجِ معكُم {أَبَدًا} وإنْ طالَ الزمانُ، وقيلَ لا نطيعُ في قتالِكُم أو خذلانِكُم وليسَ بذاكَ لأن تقديرَ القتالِ مترقبٌ بعد ولأن وعدَهُم لهم على ذلك التقديرِ ليسَ مجردَ عدمِ طاعتِهِم لمن يدعُوهُم إلى قتالهِم بل نصرتَهُم عليهِ كما ينطقُ به قولُهُ تعالى: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي لنعاونَنَّكُم على عدوِّكم على أن دعوتَهُم إلى خذلانِ اليهودِ مما لا يمكنُ صدورُهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ حتى يدَّعوا عدمَ طاعتِهِم فيها ضرورةَ أنَّها لو كانَتْ لكانَتْ عند استعدادِهِم لنصرتِهِم وإظهارِ كفرِهِم ولا ريبَ في أنَّ ما يفعله عليه الصلاةُ والسلامُ عند ذلكَ قتلَهُم لا دعوَتَهُم إلى تركِ نصرتِهِم، وأما الخروجُ معهم فليسَ بهذه المرتبةِ من إظهارِ الكفرِ لجوازِ أن يدَّعوا أن خروجَهُم معهم لما بينَهُم من الصداقةِ الدنيويةِ لا للموافقةِ في الدينِ {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في مواعيدِهِم المؤكدةِ بالأيمانِ الفاجرةِ. وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} إلخ تكذيبٌ لهم في كلِّ واحدٍ من أقوالِهِم على التفصيلِ بعدَ تكذيبِهِم في الكُلِّ على الإجمالِ {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} وكانَ الأمرُ كذلك فإنَّ ابْنَ أُبيّ وأصحابَهُ أرسلُوا إلى بَنِي النضيرِ ذلكَ سراً ثم أخلفُوهُم وفيه حجةٌ بينةٌ لصحةِ النبوة وإعجازِ القرآنِ.
{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} على الفرضِ والتقديرِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} فراراً {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي المنافقونَ بعد ذلكَ، أي يهلكهم الله ولا ينفَعُهُم نفاقُهُم لظهورِ كفرِهِم أو ليَهْزُمَنَّ اليهودُ ثم لا ينفعُهُم نصرةُ المنافقينَ.


{لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} أي أشدُّ مرهوبيةً على أنها مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ {فِى صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي رهبتُهُم منكُم في السرِّ أشدُّ مما يظهرونَهُ لكم من رهبةِ الله فإنهم كانُوا يدَّعونَ عندَهُم رهبةً عظيمةً من الله تعالى {ذلك} أي ما ذُكِرَ من كونِ رهبتِهِم منكُم أشدَّ من رهبةِ الله {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أيْ شيئاً حتى يعلمُوا عظمةَ الله تعالى فيخشَوه حقَّ خشيتِهِ.
{لاَ يقاتلونكم} أي اليهودَ والمنافقونَ بمعنى لا يقدرونَ على قتالِكُم {جَمِيعاً} أي مجتمعينَ متفقينَ في موطنٍ من المواطنِ {إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالدروبِ والخنادقِ {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} دونَ أنْ يصحرُوا لكُم ويبارزُوكم لفرطِ رهبتِهِم وقرئ: {جُدْرٍ} بالتخفيفِ وقرئ: {جِدَارٍ} وبإمالةِ فتحةِ الدالِ وجَدْرِ وجدر وهما الجدارُ {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} استئنافٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذكرَ من رهبتِهِم ليسَ لضعفِهِم وجبنِهِم في أنفسِهِم فإنَّ بأسَهُم بالنسبة إلى أقرانِهِم شديدٌ وإنما ضعفُهُم وجبنُهُم بالنسبةِ إليكُم بما قذفَ الله تعالَى قلوبَهُم من الرعبِ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} مجتمعينَ متفقينَ {وَقُلُوبُهُمْ شتى} متفرقةٌ لا أُلفةَ بينَهَا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} أي ما ذُكِرَ منْ تشتتِ قلوبِهِم بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي لا يعقلونَ شيئاً حتَّى يعرفُوا الحقَّ ويتبعُوه وتطمئنَ به قلوبُهُم وتتحدَ كلمتُهُم ويرمُوا عن قوسٍ واحدةٍ فيقعونَ في تيهِ الضلالِ وتشتتِ قلوبِهِم حسبَ تشتتِ طرقِهِ وتفرقِ فنونِهِ، وأمَّا ما قِيل مِنْ أنَّ المعنى لا يعقلونَ أنَّ تشتتَ القلوبِ مما يُوهِنُ قُواهُم فبمعزلٍ منَ السدادِ. وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ مثلُهم أيْ مثلُ المذكورينَ من اليهودِ والمنافقينَ كمثلِ أهلِ بدرٍ أو بني قَينُقَاع على ما قيلَ من أنهم أُخرِجُوا قبلَ بني النضيرِ {قَرِيبًا} في زمانٍ قريبٍ، وانتصابُهُ بمثَلِ، إذِ التقديرُ كوقوعِ مثلِ إلخ {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي سوءَ عاقبةِ كُفرِهِم في الدُّنيا {وَلَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقَادِرُ قَدْرُهُ والمَعْنَى أنَّ حالَ هؤلاءِ كحالِ أولئكَ في الدُّنيا والآخرةِ لكنْ لا على أنَّ حالَ كُلِّهم كحالِهِم بلْ حالُ بعضِهِم الذينَ هم اليهودُ كذلكَ وأما حالُ المنافقينَ فهيَ ما نطقَ به.


قولُه تعالى: {كَمَثَلِ الشيطان} فإنَّه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مبينٌ لحالِهِم متضمنٌ لحالٍ أُخْرَى لليهودِ وهي اغترارُهم بمقالةِ المنافقينَ أولاً وخيبتُهُم آخِراً وقد أُجْمِلَ في النظمِ الكريمِ، حيثُ أُسنِدَ كلٌّ من الخبرينِ إلى المقدرِ المضافِ إلى ضميرِ الفريقينِ منْ غير تعيينِ ما أُسْنِدَ إليهِ بخصوصِهِ ثقةً بأنَّ السامعَ يردُّ كلاً من المثلينِ إلى ما يماثلُهُ كأنَّهُ قيلَ مثلُ اليهودِ في حلولِ العذابِ بهم كمثلِ الذينَ منْ قبلِهِم الخ. ومثلُ المنافقينَ في إغرائِهِم إيَّاهُم على القتالِ حسبما نُقِلَ عنهُم كمثلِ الشيطانِ {إِذْ قَالَ للإنسان اكفر} أيْ أغراهُ على الكفرِ إغراءِ الآمرِ المأمورَ على المأمورِ بهِ {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ} وقرئ: {أنا بريءٌ منكَ}. إنْ أريدَ بالإنسانِ الجنسُ فهذَا التبرؤُ منَ الشيطانِ يكونُ يومَ القيامةِ كما ينبىءُ عنْهُ قولُهُ تعالى {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} وإنْ أُرِيدَ بهِ أبو جهلٍ، فقولُهُ تعالى: {اكفر} عبارةٌ عنْ قولِ إبليسِ يومَ بدرٍ {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} وتبرؤه قولُه يومئذٍ {إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} الآيةَ {فَكَانَ عاقبتهما} بالنصبِ على أنَّهُ خبرُ كانَ واسمُهَا {أَنَّهُمَا فِى النار} وقرئ بالعكسِ وقد مرَّ أنه أوضحُ {خالدين فِيهَا} وقرئ: {خالدانِ فيها} عَلى أنه خبرُ أنَّ وفي النارِ لغوٌ {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} أي الخلودُ في النارِ جزاءُ الظالمينَ على الإطلاقِ دونَ هؤلاءِ خاصَّة.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} أي في كلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أيْ أيُّ شيءٍ قدمَتْ من الأعمالِ ليومِ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ لدنوِّهِ أو لأن الدنيا كيومٍ والآخرةُ هي غَدُهُ وتنكيرُهُ لتفخيمِه وتهويلِه كأنه قيلَ لغدٍ لا يُعرفُ كنهُهُ لغايةِ عظمِه، وأما تنكيرُ نفسٍ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قدَّمن لذلكَ اليومَ الهائلِ، كأنه قيلَ ولتنظُر نفسٌ واحدةٌ في ذلكَ.
{واتقوا الله} تكريرٌ للتأكيدِ، أو الأولُ في أداءِ الواجباتِ كما يُشعرُ به ما بعدَهُ من الأمرِ بالعملِ، وهذا في تركِ المحارمِ كما يُؤذنُ بهِ الوعيدُ بقولِهِ تعالَى: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من المعاصِي {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي نَسُوا حقوقَهُ تعالَى وما قدرُوه حقَّ قدرِهِ ولم يراعُوا مواجبَ أوامرِهِ ونواهِيه حقَّ رعايتِهَا {فأنساهم} بسببِ ذلكَ {أَنفُسِهِمْ} أي جعلَهُم ناسينَ لها حتَّى لم يسمعُوا ما ينفعُها ولم يفعَلُوا ما يخلِّصُهَا أو أراهُم يومَ القيامةِ من الأهوالِ ما أنساهُم أنفسَهُم {أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون} الكاملونَ في الفسوقِ.

1 | 2 | 3 | 4